" الفكر عطية كبرى من الله وأحد عناصر الصورة في الإنسان، لذا لا يجوز الكفر به بحجة ما قد يقع فيه من شطط وغرور"
من أجل خطابٍ دينيٍّ أكثر توجّهاً إلى إنسان اليوم

خواطر حول بعض ما ورد في نشرة "الكرمة" (العدد 8، الأحد 20 شباط 2011) 

  • الإفتتاحيّة: بعنوان "رؤية أرثوذكسيّة" (ص1)
  1. النصّ: "كلّ إنسان يعطش إلى الكمال، إلى الحبّ وإلى الجمال.هنا علامةٌ فارقة: الإنسانيَّة متَّصلة بأكثر من الوجود، بما يفوق الوجود. هذا هو بُعْدُ الله." 

          تعليق: كلام جميل جداً، جديد بالنسبة لما هو شائعٌ عندنا من أقوال كنسيّة. إنّه يُخاطِبُ الإنسانَ في الأعماق مُبَيِّناً له أنّ توجّهه إلى الله إنّما هو نابع من أعماق أعماق توقه إذ إنَّه يٌعَبِّرُ عن سعيه المحوريّ إلى معنىً لوجوده.

          إنّما لا بدّ لي أن أُضيف أنَّه ينبغي أن لا تبقى هذه الأقوال الرائعة على صعيد المبدأ العامّ والتنظير الفوقيّ، وإلاّ اعتُبِر "كلاماً بكلام". لذا اقتضى أن يُطَبِّقَه الرعاة والوعَّاظ، صراحةً وبدون مواربة، على ما يُلاحَظ في واقع الحياة من توقِ البشر – الذي حَرَّكَ ويُحَرِّكُ التاريخ – إلى الحرية والعدالة والحياة الكريمة والمشاركة في تقرير مصيرهم ومصير جماعاتهم، هذا كلُّه الذي يحتدم حاليّاً بشكلٍ منقطع النظير في منطقتنا موقظاً إيّاها بشبه أعجوبةٍ من سُباتٍ طويل، ومع ذلك يغيب غالباً، للأسف عن الخطاب الدينيّ الراهن عندنا، في حين أنّ المطلوب بداهة من هذا الخطاب إذا شاء أن يبقى على خطّ الحياة فيعني فعلاً الذين يتوجّه إليهم، مُخاطِباً هواجِسَهم، أن يُبرِز المعنى العميق الكامن وراء هذا التوق – ولو ساءَت أحياناً أساليب السعيّ إلى إحقاقه – ألا وهو السعيّ إلى الله لكي "يحكم في الأرض"، فيأتي ملكوتُه إليها و"تكون مشيئته (مُحَقَّقة فيها) كما في السماء"، فتتجدَّد به دُنيانا البائسة الكئيبة: "تُرسِلُ روحَكَ (...) فتُجَدِّدُ وجه الأرض".  

  1. النصّ: "الحياة في المسيح لا تنفي الحياة الحاضرة البشريّة بل هي حياة يحتضنها الربّ بحنانه الإلهي لتسمو إلى ما يفوق الوجود المخلوق."

          تعليق: رائعٌ هذا الكلام، وجديدٌ بالنسبة لمألوفنا، كما قلنا عن النصّ السابق. فالله في الخطاب الدينيّ الذي تعوّدناه، كما وفي الخطاب الشعبيّ السائد عندنا (والمُتَمَثِّل بعبارات مثل: "مات ميتة ربّه، لاقى وجه ربّه، إنتقل إلى رحمة الله، صار في ذمّة الله)، يبدو مُرتبطاً بالموت أكثر منه بالحياة وكأنّ عطيّة الوجود لا تمتّ إليه بقدر ما يمتّ إليه زوالها.

ومع ذلك لا بد من ملاحظتين:

  • كي يجد هذا الكلام الجميل جداً مصداقيةً عند الناس، لا بدّ أن يستلهم به، كلّ يوم، خطاب المؤمنين (والرعاة منهم على الأخصّ) ومواقفهم الراهنة، وذلك عبر إبرازهم الدائم، بالقول والسلوك، لقيمة الحياة البشريّة بنطرهم، بكافة مظاهرها العاديّة، وجوانبها التي تبدو، لأول وهلةٍ، بعيدة عن الهاجس الدينيّ (كالطعام والشراب والعمل المهنيّ والراحة واللهو والأفراح على اختلافها والعِشرة والصداقة والجنس والحبّ والحياة العائليّة ...)، أقول إبراز هذه المظاهر كلّها على أنَّها هِبَةُ حبٍّ من الله لا تُقَدَّر يمنحُنا إيّاها، لا بل على أنّها تهجَئة للملكوت الموعود به، (ألَم يتّخذ يسوع من الحبّ الأبويّ لدى البشر صورة عن أبوّة الله فعلَّمنا أن ندعوه "أبانا..."، ومن وليمة العرس، في أمثاله، إشارة إلى فرح الملكوت؟ ألم يتّخذ الوحي الإلهيّ من العشق البشريّ، بكافة تعابيره الجنسيّة والعاطفيّة، صورة كشف عبرها، في رائعة "نشيد الأناشيد"، بهاء حبِّ الله للبشريّة وحُبِّها له؟). ينبغي إذاً للخطاب الدينيّ، مُتَرجَماً في السلوك اليوميّ، إذا شاء أن لا يُعتَبَر الله عدوَّاً للحياة وأليفاً للموت ومتواطئاً معه، أن يأخذ على محمل الجدّ، كلّ الجدّ، مباهج الحياة هذه، على تواضعها ومعطوبيّتها، أن يضعها في قلب الهاجس الدينيّ وليس على هامشه، أن يُعبِّر عن تذوّقه لها على أنَّها هِباتٌ نفيسة مُنحَدِرة إلينا بسخاءٍ، "من العلوّ، من أبي الأنوار" (يعقوب1: 17)، فيُمَجِّدُهُ عليها برفع الشكر الدائم لجوده العظيم (ألَم يوصينا الرسول قائلاً: "إن أكلتم وإن شربتم ومهما عملتم فاعملوا كلّ شيءٍ لمجد الله"؟). ينبغي إذاً للخطاب الدينيّ، كي يستقيم قولاً وسلوكاً، ويَنقُل بالتالي إلى إنسانِ اليوم صورةً غير مُنتَقَصَة أو مُشَوَّهة، أن لا يترفَّع عن اهتمامات الدنيا أو يستهتر بها – كما هو شائع للأسف – مُعتَبِراً إيَّاها أموراً "دنيويّة"، في حين أن ليس من أمر "دنيويّ" بالحقيقة، إلاّ إذا غاب عنه ذكرُ الله في دنيا إنّما هي ، في الأصل، دنيا الله.
  • ثمّ إنّ العبارات الأخيرة من المقطع الذي استشهدنا به، وهي: "لتسمو (الحياة) إلى ما يفوق الوجود المخلوق"، هذه العبارة، على جمالها وعمقها، لا تخلو من غموض قد يؤول إلى التباس في إدراك فحواها.

فما يعني، بالضبط، أن "نسمو (بالمسيح) فوق الوجود المخلوق"؟ هل يعني أن نتنكَّر له، أن ندَّعي القفز فوقه والإستغناء عنه، فنتغرَّب بالتالي عن بشريّتنا؟ لا بالطبع.

إذ كما أنَّ اتحاد اللاهوت بالناسوت في شخص المسيح لم يُلغِ إنسانيّته بل حَفِظَ خصائص تلك الإنسانيّة، كذلك فإنَّ انفتاحِنا، بالمسيح، إلى رحاب الألوهة ووجودها غير المخلوق لا يُلغي بشريّتنا بل يُنيرها ويُلهِبُها من الداخل، بحيث إنَّها لا تنتفي ولا تتناقص بل، على العكس، تؤهَّل، بانتعاش الصورة الإلهيّة الكامنة فيها أصلاً، لتحقيق كامل طاقاتها. هذا هو "التأليه" theosis الذي تحدَّث عنه التراث الآبائيّ. إنَّه ليس انتقاصاً للإنسانيّة فينا بذوبانها في الألوهة، بل اكتمال لإنسانيّتها بتأجُّجِها بالألوهة، تلك الألوهة المسجَّلَة في صلب كيانها كبُعد أساسيّ من أبعاده. إنَّه، بالنسبة لكلّ إنسان، بمثابة تحقيق للكلام المأثور: "صِرْ ما أنتَ هو" Deviens ce que tu es ، أي: حقِّق ملء هويّتك الأصيلة.

           مجمل الكلام إنَّ المسيح، إذا سما بحياتنا، لا يجعلها أقلّ إنسانيّة بل أكثر توغلاً في إنسانيّتها، وذلك لأنَّه يُدنيها من الله، الله الذي قال عنه أحد المفكِّرين المعاصرين "إنَّه وحده إنسانيّ" Dieu seul est humain .

         هذا التوضيح الذي بسطناه، بالغ الأهميّة بالنسبة إلى إنسان اليوم الذي يهمُّه كثيراً أن تُحتَرَم إنسانيّته، ويهمٌّه، بالتالي، أن يتأكَّد أنَّ الله لا يبغي سلب إنسانيّته منه بل أن يفُكَّ قيودها ليتسنّى لها أن تتحقَّق على أكمل وجه. 

  • "حول الرسالة" (ص3)
  1. النصّ: "بينما أنا عبدٌ للمسيح فقط"

        لا يجوز، برأيي، أن تُستَخدَم عبارة كهذه لمخاطبة إنسان اليوم، لأنَّها توحي بأنَّ علاقته بالمسيح هي علاقة عبوديّة، وبأنَّ همَّ الله أن يستعبِدَه ويحرِمَه بالتالي من تلك الحريّة التي يُقدِّسُها ولا يرضى عنها بديلاً. صحيح أنّه، في واقع الحال ومن حيث لا يدري، منقاد إلى طغيان مؤثّرات عديدة كالآراء الشائعة التي تُرّوِّج لها وسائل الإعلام على اختلافها ومُغريات مجتمع الإستهلاك، بشأن نمط تفكيره وعيشه وسلوكه، ولكنَّه، رغم ذلك التناقض، نراه شديد التشبُّث والاعتزاز بحريّةٍ يراها بحقّ شرطاً لإحقاق كرامته ناضلت من أجله البشريّة على مدى قرون. من هنا إنَّ استعمال كلمة "عبد" لوصف علاقته بالله من شأنه أن يُثير لديه نفوراً وقد يُبرِّر إلحاد كثيرين. 

       على كلّ حال، فالمسيح نفسه لم يشأ أن يُطلِق هذه الصفة على تلاميذه، حين كلَّمهم في خطابه الوداعيّ قائلاً لهم:

      "لا أدعوكم عبيداً، لأنَّ العبد يجهل ما يعمل سيّدُه، بل أدعوكم أحبّائي، لأنّي أُطلِعُكم على كلِّ ما سمِعتُهُ من أبي" (يوحنّا15: 15)

       صحيح أنَّ كلمة "عبيد"، كما وَرَدَت هنا، وكما تَرِد في مقاطع أخرى من العهد الجديد (مثلاً: "فمن تراه العبد الأمين العاقل، الذي أقامه سيّده على أهل بيته ..." بمتّى24: 45)، تُفيد "الخدّام" كما يتضحُ من العودة إلى الترجمة الفرنسيّة. ومع ذلك، ترى يسوع يتحاشاها لتسميّة تلاميذه، لما قد تحمله من معاني الدونيّة والإقصاء ("لأنَّ العبد يجهل ما يعمل سيّدُه")

      الأفضل بكثير إذاً أن نستعيض عن عبارة "عبد" المكروهة، بحديثنا عن "ولائنا" الكامل للمسيح، ذاك الذي ليس فقط لا يرتضي استعمالها، إنَّما هو، كما علَّم الرسول بولس، يُحَرِّرُنا من كلِّ عبوديّةٍ ("قد اشتُريتُم بثمنٍ، فلا تصيروا عبيداً للناس")، حتى من "عبوديّة" الله كما تصوَّرها     البشر ولا يزالون.

  1. النصّ: "... ولكن حريتي تضبطها قواعد روحيّة بالدرجة الأولى وأخلاقيّة بالدرجة الثانية"

               هذا ما يرفضه كثيرون في عصرنا، وذلك ليس بالضرورة رغبةً منهم في التفلُّت والإنحلال (مع أنَّ هذا الإحتمال وارد أيضاً)، إنَّما بسبب تقديسهم لحريّةٍ يأبون التفريط بإخضاعها لقواعد يتوهمونها خارجةً عنها (تلك المدعوّة "أخلاقيّة" و"روحيّة")، وذلك لأنَّه لم يوضَح لهم – كما أنَّه لا يوضَح في النصِّ المذكور هنا – أنَّ فحوى هذه "القواعد" والمُبرِّر الوحيد لوجودها، ليس التضييق الخانق على حيويّة الإنسان وتقزيمها والحدّ المُفتَعَل من انطلاقها التلقائيّ، بل على العكس تحرير حريّته من القيود التي ينزع دوماً، من حيث لا يدري، إلى تكبيلها بها سعياً إلى راحةٍ سهلةٍ وإشباعٍ رخيصٍ، فيُحبِط هكذا، دون أن يعلم، ما تتوق إليه حريّته في أعماقها، ألا وهو تحقيق إنسانيّته على أكمل وجه حتى وإن اقتضى ذلك مشقّة "دخوله من الباب الضيّق" ليطلّ منه على رحاب إنسانيّة فيه شاءَها له الله على صورته لكي، بتحقيقه إيّاها بملء اختياره، يتأهَّل لأن يكون أليفه وعشيره. فليس همُّ الله أن يسود على خلائق مُنتَقَصَة، مقصوصة الأجنحة، بل أن "يقوم في مجمع الآلهة". 

  1. النصّ: هدف حريّتي الأول هو أن أختار ما هو خيرٌ وأرفض ما هو شرّ"

          هذه الصياغة من شأنها أن تؤكِّد الوهم القائم لدى كثيرين من معاصرينا، بأنَّ ما يُسمّيه المسيحيّون "حريّة" ليس هو بحريّة، لأنَّه، بالفعل، مُسَخَّر لتحقيق "خير" و"شرّ" مفروضيَن على الحُرّ من الخارج. لذا كان الأحرى أن يُقال أنَّ "هدف حريّتي الأول" هو "أن أختار"ما هو موافق لإنسانيّتي الحقّة (التي هي على صورة الله) "وأرفض" ما هو غير موافق لتلك الإنسانيّة الحقّة التي، بدونها، لست شيئاً. هذا ما يُشير إليه الرسول عندما يقول بجرأة مذهلة: "كلّ شيء يحلّ لي ولكن ليس كلّ شيء يوافقني، كلّ شيء يحلُّ لي ولكن لا يتسلَّط عليَّ شيء." حتى الخير لا يتسلَّط عليَّ، لأنَّه من مقتضيات تحقيق كيانيّ: "فكلّ شيء لكم. أبولس كان أم أبلّس أم صَفَا أم العالم أم الحياة أم الموت أم الحاضر أم المستقبل، كلّ شيء لكم، وأنتم للمسيح، والمسيح لله." (1كورنثوس 3: 21 -23)

  1. النصّ: "الجسد يُمجِّد الله حين يكون مُنضَبِطاً، خادماً لله وللجميع (...)، مُتَعَبِّداً، مُحتملاً الآلام بشكر، غير مكتئبٍ في الضيقات، صائماً، غير ساعٍ وراء ملذّات الدنيا"

         لا بدّ لي من التعليق على بعض الصفات كما وردت هنا:

أ_ "مُحتَمِلاً الآلام بشكرٍ":

    عبارة تُنَفِّرُني كما تُنَفِّرُ الكثيرين من معاصرينا الذين يشتمّون فيها بحقٍّ رائحة ماسوشيّة تتذرَّع بالله. ليس مطلوباً مني البتّة أن أشكُرَ على آلامٍ يكون من الكفر الاعتقاد أنّ الله يُرسِلُها لي أو حتّى أنَّه "يسمح بها" (لأنَّنا إذا قَبِلنا أنَّه "يسمح بها"، نكون قد وضعناه من حيث لا ندري، كما أوضح الأب لويس كاردونيل Louis Cardonnel، في مصفّ ... بيلاطس الذي "غَسَلَ يديه من دمّ الصدّيق" الذي كان بمقدوره إنقاذه). فالله، الذي منه "تنحدر كلّ عطيّة صالحة وكلّ موهبة كاملة"، الله "أبو الأنوار" (يعقوب1: 17)، ليس بحالٍ من الأحوال مصدر الآلام، التي لا تأتي منه بل تفرزها طبيعة "دنيا" تُشير تسميّتها إلى نقصها الجوهريّ (فهي "الأدنى" أي نقيض "الأعلى")، "دنيا" ليس بوسع "الضابط الكلّ" أن يجعلها، مثله، خالية من "بصمات العدم" التي تبرزها منه بلا انقطاع قدرته المُحِبّة الخلّاقة. ما ينبغي أن أشكر الله عليه ليست الآلام – وقد أمضى المسيح حياته على الأرض في مكافحتها على طرقات فلسطين، بشفائه المرضى وأصحاب العاهات، مُعلناً بتقهقر الألم هذا على يده، علامة إقتراب ملكوت الله، ثم تجرَّع (وتجرَّع الله عبره) مرارتها حتى الثمالة ليُشارِك البشر بؤسهم ويُمّهِّد لتَحَرُرِهم منه – ما أشكر الله عليه هو ما يهبُني إيّاه من قدرة على مقاومة آلام الدنيا فيَّ وفي الآخرين، وحتى على تسخير معاناتي لترقية ذاتي وخدمة الآخرين.

ب_ "صائماً":

     العبارة كما وردت هنا قد توحي بأنَّ الصوم هو غاية بحدّ ذاته، وقد ترسَّخ بالتالي الوهم الشائع، بسببنا، لدى الكثيرين من معاصرينا، بأنَّ القصد منه هو "إماتة" الجسد (والعبارة بين مزدوجين شاعت بالفعل كثيراً، ولا تزال، في المسيحيّة الغربيّة) وكأنَّ الله يُسَرُّ بذلك، ويرتضيه كشرط للتقرُّب منه. لذا كان ينبغي التوضيح أنَّنا نصوم، لا إعراضاً عن ما يهِبُنا الله إيّاه من خيرات، بل على العكس إعترافاً بتقديرنا العميق لسخاء معطيها لنا، ولكي نتدرَّب ونتربّى على تفضيله على عطاياه، مهما حلَت هذه العطايا. 

ج_ "غير ساعٍ وراء ملذّات الدنيا":

     وهل أنَّ "ملذّات الدنيا" شرٌّ بحدِّ ذاته حتى يُنظَر إليها بهذا الإزدراء؟ أوَ ليست، في الأصل، هِباتٌ إلهيّة ينبغي بالأحرى أن نشكر عليها الله الذي يفرح بتمتُّعِنا بها كما يفرح الأبّ برؤيّة  سرور أولاده بما منحه لهم من عطايا؟ فإلهنا، الإله الحيّ، إنَّما هو على نقيض ما كان يتصوَّره الإغريق عن إلههم زفس (وقد دعاه الرومان "جوبيتر") بأنَّ الحسد يعتريه من فرحِ خلائقه. كلاّ إنَّ الشرّ ليس في "ملذّات الدنيا"، بل في أن يكون المرء مهووساً بها بحيث تُنسيه مِتَعُ الدنيا تحقيق إنسانيّته التي تسمو بقيمتها على الدنيا نفسها، وبحيث تُحَوِّله عطايا الله عن بهاء وجه المُعطي "المُشتَهى بالحقيقة" الذي يتّجه إليه في العمق توقه، حتى إنَّه إذا حادَ عنه خَسِرَ معنى حياته. 

5.النصّ: "(وبعد: مجِّدوا الله في أجسادِكم) يُتابِع الرسول: وفي أرواحكم"

        النصُّ الأصليّ لا يحمِلُ هذه العبارة كما يتَّضِح من مراجعة مرجعين أساسيين:

 La Bible de Jérusalem (وهي ترجمة كاثوليكيّة علميّة للكتاب)

 وTraduction OEcuménique de la Bible TOB (وهي ترجمة علميّة مسكونيّة ساهم فيها خُبَراء أرثوذكسيّون)،
حيثُ يرد فقط: "مَجِّدوا الله في أجسادكم".

        من أضاف "وفي أرواحكم"، أعتقد، برأيي، أنَّه إنَّما يُصَحِّحُ سهواً وقع في النص. ولكنَّه أخطأ الظنّ لأنَّه تصوَّر أنَّ عبارة "أجسادكم" تعني أبدانكم ولا تشمل بالتالي النفس الإنسانيّة الكامنة في تلك الأبدان. لم يخطُر على بالِه أنَّ الفِكرَ العبريّ، الذي هو فكر الكتاب المقدَّس، إنَّما كان يقصد بعبارة "الجسد" الكيان الإنسانيّ بأكمله، بصفته كياناً مُتَجَسِّداً. لذا قال الرسول: "مَجِّدوا الله في أجسادكم"، واكتفى بذلك، لأنَّه عنى: مَجِّدوا الله في كيانكم كلّه الذي هو مُلازِم للجسد مُلازَمَة الكلمة للصوت التي يُجَسِّدُها. بهذا المعنى أيضاً قال أشعياء: "وسيُعاين كلّ جسد  مجد الله" (إشعياء40: 5)، والواضح أنَّ المقصود هنا بـ"الجسد" إنَّما هو الإنسان كلّه.

       الفكر العبريّ الذي نجده في الكتاب المقدّس هو فكرٌ توحيديّ unitaire أي إنَّه يُرِكِّزُ على وحدة الكيان الإنسانيّ ببَدَنِه ونفسه (وبهذا يلتقي مع الفكر المعاصر) وليس فكراً ثٌنائيّاً dualiste كالفكر الأفلاطونيّ الذي يُقَسِّم الإنسان إلى كيانين: الجسد والروح، يتجاوران دون أن يندمج أحدهما بالآخر، الى حدّ ان الجسد اعتُبِرَ سجناً للنفس لا بل قبراً لها حسب القول المأثور آنذاك: "قبر  sema = جسد soma" . هذه الثُنائيّة ثبَّتها، للأسف، في القرن السابع عشر، الفيلسوف الفرنسيّ رينيه ديكارت  René Descartes، الذي يُعتَبَر أبا الفلسفة الحديثة، فسمَّم بها كلّ إشكاليّة الفلسفة اللاحقة، التي استلهمت موقفه، فكان من نتائج ذلك مثلاً إنتشار المذهب المادّي matérialisme الذي بَرَزَ كردّ فعل على هذه التجزئة المُصطَنَعة للكيان الإنسانيّ، فكان بمثابة محاولة رعناء (لأنَّها أكّدت الوحدة ولكنَّها أغفلت التمايز) لإعادة التداخل بين عنصريه بعد أن فُصِلَ بينهما زوراً.

  5-3-2011

ك.ب.